لبنانيون يبيعون دمهم للفوز بـ... لقمة عيش..

  

لا كلام بعد اليوم يمكنه وصْف «الحال اللبنانية» المصابة بـ «فقدان المنلاعة» الوطنية وتَحَوُّلها مجرّد رمادٍ في مَشاريع إقليمية... فالكلامُ صار بلا دم وبلا إحساس بعدما استسلمتْ قواميسُ العالمِ أمام احتضار البلاد التي كانت يوماً «نموذجاً يُحتذى» في العطاء والعيش والفكر والانفتاح والحداثة.

 

لا هو لبنان ولا هي بيروت، لا هي الحياة ولا هُم الناس، لا هو الشغف ولا هي السياسة... دولةٌ خردة، حُطامُ مجتمعٍ، موتُ السياسة، اندثارُ الأحلام، تَلاشي الاقتصاد، تَقَهْقُرُ القِيَم، يأسٌ جَماعي، يومياتُ ذلٍ و... أشياء أخرى. كأن الوطنَ الجميل الذي وُلد قبل ماية عام يُقتاد إلى الانتحار.

 

اللبنانيون الذين غالباً ما هتفوا لزعمائهم «بالروح بالدم نفديك يا...» واستُغل دمهم «الرخيص» في حروبٍ داخلية وعابرة للحدود، صاروا اليوم وهم أنفسهم «يتاجرون بدمهم»، يبيعونه من شدة العَوَز وربما لتأمين لقمة عيش أو حجْزِ ليتر بنزين...

 

وما يصح على اللبنانيين يَصحّ على «ضيوفهم» من السوريين الذين فرّوا من مأساةٍ إلى مأساة. في كل المجتمعات التي تعاني حروباً أو انهياراً اقتصادياً، تطفو على السطح ملامحُ الانهيار الاجتماعي والأخلاقي وعلى نحو حاد... من بيع الأطفال أو عرضهم للتبني وبيع الأعضاء، وشبكات تهريب البشر والاتجار بالنساء والأطفال.

 

ما يعيشه لبنان اجتماعياً واقتصادياً، لم يشهد له مثيلاً حتى في أيام حربه المأسوية. فالانهيارُ المالي انعكسَ على كل شاردةٍ وواردةٍ، وأطاح بالقطاع الصحي في شكلٍ دراماتيكي. شركاتُ التأمين الصحية التي ترضخ للضغط نتيجة انهيار سعر الليرة باتت تعجز عن تأمين الحد الأدنى من التغطية الصحية، وشركاتُ استيراد الأدوية متعثّرة بسبب عدم فتح مصرف لبنان الاعتمادات اللازمة لتأمين الدواء، وكذلك المختبرات الطبية أعلن بعضها التوقف عن إجراء الفحوص نتيجة تعذُّر تأمين المستلزمات اللازمة، وأمراضٌ لا تُغطى تكلفتها، وأطباء وممرضون يهاجرون... كل ذلك، يجعل المرضى أسرى عجْزٍ مالي واستشفائي.

 

وما لم يكن لا في الحسبان ولا في الخيال أن يصبح التبرّعُ بالدم والبلاكيت في لبنان مقابل بدَل مادي، فهذا قمة المأسوية التي تُغتال فيها القِيَمُ الأخلاقية رمياً بالجوع والعَوَز والفقر. فالمعادلةُ البائسة صارت أشبه بصفقة بين المرضى المحتاجين لعلاجات ضرورية والمتبرعين المعوزين المتهالكين. وكأن كل شيء في لبنان بات مرشحاً لـ «العرض والطلب» في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تضرب اللبنانيين.

 

فمظاهر الفقر والتقشف بدأت تطول فئات كبيرة في مأكلهم وصحتهم وأدويتهم واستشفائهم، و«العرض والطلب» أصبح يمتدّ في أبشع صوره، إلى التبرع بالدم الذي صار مدفوعاً في بيئات لبنانية أو سورية مقيمة في لبنان.

 

ويقول أحد أفراد عائلة مريض يحتاج إلى بلاكيت دم في شكل دوري، إن ما جرى معها كان صدمة لا توصف، لأنها المرة الأولى التي تدرك فيها أن هناك مَن بات يؤمن متبرّعين بالبلاكيت مقابل بدل مادي، بحسب وتيرة التبرع. في العادة كانت حالاتُ التبرّع بالدم تلقائية وتَطَوُّعية، سواء في المستشفيات أو عبر الصليب الأحمر وبنك الدم التابع له، أو من خلال شبكاتٍ أسّستْها مجموعاتٌ شبابية عبر مواقع التوصل الاجتماعي تتواصل في ما بينها لتأمين وحدات دم لأي مريض، وهي أثبتت فعاليتها في شكل كبير، وأظهرت نخوة الشبان والشابات في التضامن، ولا سيما عند وقوع حوادث السير والانفجارات.

 

ولم يكن اللبنانيون يبخلون يوماً بالتبرع بالدم، عند أي طارئ أمني. وما حدَث بعد انفجار مرفأ بيروت وغيره من تَهافُت للتبرع بالدم دليل على أن هذه الحالة كانت إلى وقت قريب مازالت إنسانيةً بحتة وغير خاضعة لأي مساومة، وهي مازالت كذلك بنسبة كبيرة. وربما في حدّها الأقصى كان المستشفى يؤمّن لمرضاه المحتاجين فئات الدم من الفئة نفسها، ويحصل في المقابل على تبرعات من فئات أخرى، ونَدَرَ أن تَعَذَّرَ وجود متبرعين. علماً أن قطاعات عسكرية مثلاً تؤمّن من داخل مؤسساتها التبرع بالدم لعناصرها.

 

وبعد انتشار «كورونا»، بدأ أطباء بتطبيق علاجات عبر تأمين بلاكيت دم من مرضى «كورونا» لمرضى جدد يعانون من آثار حادة جراء الإصابة. ومنذ ذلك الوقت الذي تزامن مع انهيار الوضع المالي، وحاجة بعض المرضى ولا سيما ذوي الأمراض المستعصية، لبلاكيت دم، بدأ بعض المتبرعين يطالبون ببدل مادي، لقاء... دمهم.

 

وتروي إحدى السيدات أن القصة لا تتعلق فقط بعدم وجود فئات دم مناسبة، إنما أيضاً بتقاعس أفراد العائلة وأصدقائها أحياناً عن التبرع بالدم، فتضطر العائلة إلى دفع بدَل مادي من أجل الحصول على البلاكيت أو الدم. إضافة إلى أن هناك عدم وعي وثقافة طبية في أن المتبرع بالبلاكيت، غير المتبرّع بالدم، وهو قادر أن يعوّض البلاكيت كل 48 ساعة بعكس المتبرع بالدم. لكن عملية تأمين البلاكيت في المستشفى تحتاج إلى ساعتين أو أكثر الأمر الذي بات يشكل سبباً لطلب المتبرّع «ثمن» وقته. ويروي أحد الذين يساعدون مريضاً في تأمين شبان للتبرع، أن الدم كان بدايةً مقابل تكلفة الانتقال إلى المستشفى، حتى ان عائلات المرضى تعرض ذلك كأدنى واجبات الشكر للمتبرع.

 

لكن مع ارتفاع عدد المصابين بـ «كورونا» ومن ثم ارتفاع نسبة الأمراض المستعصية وانهيار القطاع الصحي، تحوّل التبرع بالدم لدى البعض طريقة للإفادة المادية، فبدأت المطالبة بدفع مبلغ مئة ألف ليرة، ليصبح بدل التبرع حالياً بين 500 ألف ومليون ليرة. ودفْع هذا المبلغ، تجده بعض عائلات المرضى مقبولاً، في الوقت الراهن، إذا كان لمرة واحدة. وتقول إحدى السيدات إنها دفعت المبلغ على اعتبار أنه «ثمن دواء». لكن المشكلة حين يحتاج المريض إلى تأمين التبرع لمرات عدة. ورغم أن هناك عائلات مستعدّة لدفْع هذه المبالغ، إلا أنها أحياناً لا تجد متبرّعاً إلا بشق النفس.

 

وقد بدأت هذه القضية تتفاعل في أوساط نازحين وعمال سوريين، للحصول على متبرعين، كما أن هناك شباناً سوريين يؤمّنون متبرّعين وبسعرٍ مُناسِب. وبات الطلب على هؤلاء العمال السوريين مرتفعاً، وهم يستفيدون في الوقت نفسه من المبالغ التي تُدفع لهم. لكنها أيضاً تتفاعل في بعض البيئات اللبنانية الفقيرة التي يستفيد أبناؤها من مبالغ مالية في ظل أزمة بطالة متفشية.

 

إنها آخِر مَظاهر الفقر في لبنان... لكنها أيضاً تقف عند حدود المرض والعوز، لأن هتافات اللبنانيين المحازبين لزعمائهم «بالدم بالروح نفديك» مازالت مجانية.

(الرأي)

تعليقات