العاصمة اللبنانية خرجتْ من الخدمة: «ألو بيروت»... ولا مَن يجيب

وسام أبوحرفوش وليندا عازار ـ الراي

لم تعُد الاختراقات السياسية «الاضطرارية» ولا الكبح الاصطناعي لانهيار الليرة أمام الدولار كافيين لإضفاء مناخاتٍ تشي بتبدّلات حقيقية في مسار الانزلاق نحو الارتطام المريع، بعدما باتت الاهتراءات الكارثية في مختلف جوانب إدارة المؤسسات، بانعكاساتها المباشرة على يوميات اللبنانيين الذين يواجهون واحدة من أعتى 3 أزمات مالية منذ 1850، أكبر من أن تحجبها معالجات جزئية، في الواقع السياسي أو النقدي.

فلم تكد بيروت أن تتلقى «بُشرى» إفراج الثنائي الشيعي «حزب الله» ورئيس البرلمان نبيه بري عن جلسات الحكومة بعد تعطيلٍ عن «سابق تصوّرٍ وتصميمٍ» استمرّ لنحو 100 يوم، حتى جاء «عزْلُ» أجزاء واسعة من بيروت لساعاتٍ عن العالم بفعل انقطاع الاتصالات والإنترنت لنفاذ المازوت في عدد من السنترالات ليعكس حجمَ تَحَلُّل الدولة التي تترنّح على عتبة... الفشل الشامل.

وجاء خروج قسم من العاصمة (في دائرة بيروت الثالثة وبينها مناطق المزرعة، راس بيروت، عين المريسة، المصيطبة، زقاق البلاط، الحمرا، وصولاً إلى الأشرفية) عن «الخدمة» مُفْجعاً، ليس فقط لأنه وضَع مَن كانت يوماً «لؤلؤة الشرق» في «عمى اتصالات» تفرّع من العتمة التي تغرق فيها، بل أيضاَ لأن «أسبابه التافهة» التي كشف عنها المدير العام لهيئة «أوجيرو» عماد كريدية تؤشر لحجم الاستخفاف بحقوق مواطنين «حوصروا فجأة» وسط تراشُق بالاتهامات عن هذه الفضيحة... المدوّية.

فكريدية الذي كان أصدر ليل السبت «بلاغاً» عبر «تويتر»، «أعلم» فيه أنه «مع ساعات الصباح الأولى سينقطع الاتصال بدائرة بيروت الثالثة وسيتوقف سنترال المزرعة عن العمل مع نفاذ آخر ليتر مازوت لدينا... يا ست الدنيا لا تؤاخذينا على ما فعلت البيروقراطية المقيتة فينا»، كشف أمس أن سبب ما حصل (تكرر في طرابلس بعد ظهر الأحد ومناطق أخرى) «هو تأخر مُحاسِب في وزارة الاتصالات عن التوقيع على ورقة لأنه لم يكن موجوداً»، معلناً «لن أقبل بأن أبقى في منصبي ما لم تتأمن الإمكانات للعمل ولن نتحمل مسؤولية تقاعس موجود في مكان آخر» (وإذا مش قادر جيب الإنترنت اترك منصبي أفضل).

واضاف:«تم تأمين الفيول لكل من سنترالي الأشرفية وكورنيش المزرعة، ومن المنتظر عودة سنترال المزرعة إلى الخدمة بغضون نصف الساعة، إلا أن الكمية لا تكفي سوى لثلاثة أيام ليعود إلى الدوامة نفسها، وبالأمس استطعنا تأمين الفيول لمنطقة الجديدة... بالديْن».

ومعلوم أنه في ديسمبر الماضي وافق ديوان المحاسبة على صرف 350 مليار ليرة لـ «اوجيرو»، واعتبر كريدية حينها «أن المبلغ سيعطي بعض النفَس لما بين 3 و6 أشهر، كي نأتي بالمازوت والقيام بالصيانة اللازمة».

و«انفجر» هذا الملف، فيما كان لبنان «يتحرّى» عن «صندوقة الأسرار» التي أمْلت على الثنائي الشيعي التراجُع خطوة كبيرة بفكّ أسْر الحكومة قبل نيْل مبتغاه في القضية التي احتجز باسمها جلسات مجلس الوزراء وهي إقصاء المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار أو كفّ يده عن ملاحقة السياسيين.

وراوحت القراءات لهذا التطوّر الذي جاء ليسكب «مياها باردة» على الأزمة المتمادية، التي شلّت الحكومة بعد 3 اجتماعات فقط من تشكيلها، بين حدّيْن قد يكونان متشابكيْن وإن طغى منسوب أحدهما على الآخر وهما:

• إقليمي ينطلق من أن الواقع اللبناني لا يتحرّك إلا بما يتلاءم مع اتجاهات الريح في «مسرح العمليات» الرئيسي الذي يشكله الصراع في المنطقة ومقتضياته، وسط اعتبار البعض أن توقيت الانفراجة المباغتة حكومياً على وهج ارتفاع حظوظ إمكان التوصل الى تفاهم حول النووي الإيراني يعكس أن خطوة الثنائي الشيعي انعكاسٌ لمناخات فيينا وربما جزء من «أوراق حسن النية» التي تقدّمها طهران في جولات التفاوض الحاسمة، من دون أن يرتّب ذلك تنازلاتٍ تبدّل في التوازنات لبنانياً أو تشي بالحدّ من تمكين نفوذها في «بلاد الأرز».

• والحدّ الثاني يرتكز على أن الجانب المحلي طغى على خفايا فكّ أسْر الحكومة، لاعتباراتٍ عدة أوّلها أن تَوغُّل الأزمات المعيشية بعدما كاد الدولار يحطّم كل السقوف حين لامس 34 ألف ليرة الأربعاء الماضي بات أخطر من أن يتحمّله فريقٌ بعيْنه، ولا سيما بري الذي أشارت بعض المعلومات إلى أنه هو مَن ساهم في تسليم «مفتاح» انعقاد جلسات الحكومة من فوق «عض الأصابع» بينه وبين رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه، ومع ملاحظة أوساط مطلعة أنه تَعمَّد «ردّ الصاع» للأخير ومعه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اللذين وقّعا مرسوم الدعوة لدورة استثنائية للبرلمان بجدول أعمال محدَّد و«مقفَل» رفضه بري، وذلك بتحديد «جدول أعمال» لجلسات الحكومة محصور بمناقشة مشروع قانون الموازنة وخطة النهوض التي ستنطلق عملية التفاوض مع صندوق النقد الدولي في شأنها.

وفي حين اعتبر البعض أن «حزب الله» وجّه بهذه الخطوة رسالة إيجابية برسم عون، من شأنها الحدّ من الخسائر المتتالية التي مُني بها، وليس آخرها إحباط محاولته عقد طاولة حوار وطني، وأيضاً لجم الاختلافات التكتية مع «التيار الوطني الحر» (حزب عون) في الطريق الى الانتخابات النيابية (15 مايو 2022) التي يحتاج فريق عون فيها إلى رفْده بعناصر تفرْمل تراجعاته الشعبية ولا تعمّقها، وهو ما كان سيشكله ترْك الأزمة الحكومية تعتمل مع ما لذلك من تشظيات معيشية هائلة، فإن العارفين اعتبروا أن «القفل والمفتاح» في هذه الأزمة لم يتبدّل ويتمثّل في قضية بيطار.

وفي هذا الإطار، اعتبر هؤلاء أنه ليس ممكناً فصْلُ قرار إحياء جلسات الحكومة عن التعطيل «التلقائي»، ولو الى حين لـ «صاعق» قضية كبير المحققين في «بيروتشيما» الذي شُلّ عملياً «النظام التشغيلي» لمهمّته في ضوء فقدان الهيئة العامة لمحكمة التمييز النصاب القانوني (5 أعضاء من 10) بعد إحالة أحد أعضائها على التقاعد، ما يعني عدم قدرة بيطار على مواصلة عمله ولا حتى إصدار القرار الظني ما دامت هناك دعاوى بحقه (مخاصمة الدولة) عالقة أمام هذه الهيئة (مثل التي تقدّم بها الوزير السابق يوسف فنيانونس) أو ستقدَّم لاحقاً من المدعى عليهم الآخرين من سياسيين (وبينهم رئيس الحكومة السابق حسان دياب، وفي حق بعضهم مذكرات توقيف غيابية مثل الوزير السابق النائب علي حسن خليل). ولن يكون ممكناً كسْر هذه الحلقة ما لم يتم إصدار تشكيلات ولو جزئية لتعيين رؤساء محاكم تمييز أصيلين (تتألف منهم الهيئة)، وهو ما كان مجلس القضاء الأعلى بدأ الإعداد له منذ أكثر من شهر، علماً أن مثل هذا الأمر سيدخل حُكْماً في دائرة التجاذبات السياسية وسط إمساك بري، عبر وزير المال يوسف خليل بـ«فيتو» التوقيع على مرسوم مثل هذه التشكيلات إلى جانب كل من رئيسيْ الجمهورية والحكومة ووزير العدل، إلا إذا ظهر أن هناك تسويات «تحت الطاولة» بالتفاهم مع فريق عون.

من هنا، رأى العارفون أن في ضوء «ربْط النزاع» الذي كرّسه الثنائي الشيعي في بيان العودة عن مقاطعة جلسات الحكومة (قد تتم الدعوة إلى جلسة هذا الأسبوع) عبر تأكيد أن قضية بيطار لم تُطوَ، فإن إغراق الأخير بالدعاوى وتجميد عمل الهيئة العامة لمحكمة التمييز أتاح للثنائي ترييح الوضع الداخلي مرحلياً وملاقاة محاولة مصرف لبنان احتواء الانهيار الدراماتيكي لسعر الليرة عبر فتْح الباب أمام المصارف وعملائها لشراء الدولار النقدي من «المركزي» وبلا سقوف مقابل ليرات نقدية، بما يسمح بامتصاص كتلة نقدية كبيرة بالعملة الوطنية وتحويل البنوك (ومن ورائها المركزي) عنصر الجذْب لطالبي الدولار، وإن كانت القدرة على«الصمود» في هذا المسار الذي ساهم بخفض سعر العملة الخضراء إلى نحو 24 ألف ليرة تبقى محدودة ويُخشى أن يستعيد بعدها الدولار وثباته الكبرى ما لم تكن تحققت اختراقاتٌ سريعة، وتبدو بالغة الصعوبة، في المفاوضات مع صندوق النقد.

x

تعليقات