(كريستل
خليل ـ نداء الوطن)
بقدم
واحدة، وعلى كرسي مدولب تخطّت ميرنا الحاج، ابنة الـ47 عاماً، كل الحواجز التي
صادفتها في طريقها. تعلّمت وكافحت وتحمّلت النظرات كما الكلام الجارح، وهي اليوم
تعمل بتزيين الشمع وبيعه أونلاين أو في الشارع للمارّة. لم تسمح لشيء بان يعيقها
او يكسرها، ولا لنظرة المجتمع لها أن تحدها وتمنعها من إنشاء عملها الخاص والنجاح
في ما تحب أن تفعله.
«الله
خلقنا متلنا متل غيرنا، والانسان طول ما هو عايش مش لازم يستسلم لو شو ما صار
معه»، هذه هي العبارة التي ترددها ميرنا في كل مرة تروي فيها تجربة من تجاربها أو
تتكلم على حادثة تعرّضت لها أو عن كراهية واجهتها. تربّت ميرنا الحاج في أحضان
عائلة مؤلفة من أب وأم و5 شقيقات وشقيق في منزل متواضع في منطقة عين الرمانة، حيث
تسكن مع شقيقها وأهلها، إذ أن شقيقاتها الخمس متزوجات.
وُلدت
ميرنا طفلة لا تعاني من أي مشكلة صحّية أو جسدية إلّا أنها أصيبت بمرض «الصفيرة»
عندما كانت رضيعة وساءت حالها. وبسبب خطأ طبي ناجم عن ضرب إبرة في العصب، أصيبت
رجلها بالغرغرينا، ما حتّم بترها لأنها «اهترت وهرّت « بحسب ما روت ميرنا لـ «نداء
الوطن». ومنذ ذلك الحين وهي تعاني من تبعات بتر رجلها إضافة إلى ضعف في يدها
اليسرى، وبطء في الكلام.
بداية
التنمّر
اضطر
والداها إلى تسجيلها في مدرسة «داخلية» لتتابع دراستها، لأنها كانت ترغب في العلم
منذ الصغر، إلا أن دخولها المستمر الى المستشفى وخضوعها لعمليات جراحية متتالية،
تسبب برسوبها وبجعلها معيدة لأكثر من صف، وباتت في كل مرة تعود للدراسة، أكبر من
تلامذة صفها بالعمر. ما جعلها عرضة للتنمر والاستفزاز والسخرية من قبل التلاميذ
الذين لم يتقبلوا وجودها في صفهم كونها أكبر منهم، بالإضافة الى وضعها الصحي
والجسدي. وتقول ميرنا «كانوا يسألوني قديش عمري ويطّلعوا فيّي تطليعة مش حلوة».
كل
ما تعرّضت له ميرنا في المدرسة أثّر على نفسيتها بشكل سلبي، ولم تعد قادرة على
التحمل خصوصاً أنه لم يكن لديها أصدقاء أو مقرّبون منها في المدرسة لمساندتها حتى
تستطيع تخطي المرحلة الأولى من تعليمها وإكمال دراستها إلى الآخر. قررت ميرنا ترك
المدرسة ومكثت في المنزل لفترة من الوقت لكنّها من النوع الذي يكره العجز
والاستسلام فدخلت الى مهنية لأخذ دروس في الكمبيوتر والطباعة لكسب مهارات ومواكبة
التطور، وهناك بدأت أولى تجاربها في العمل حيث كانت تطبّق ما تعلّمته وتعمل لصالح
المركز التعليمي والتدريبي نفسه. بعد فترة تركت ميرنا العمل وانتقلت الى مؤسسة
مخزومي، المكان الذي تلقت فيه دروساً في الأعمال اليدوية والسيراميك وكيفية
الاستفادة من إعادة التدوير في العمل الحرفي.
سوق
العمل الموصد
وبعد
انتهاء الدورات لم يتح المركز أي فرص عمل للمشاركين في الدورات، لذا اختارت ميرنا
أن تحاول تنفيذ ما تعلّمت وبيع سلعٍ من تصميمها وتزيينها. وتشير بمرارة الى ان
محاولاتها باءت بالفشل في هذه الصنعة لأنها لم تحظ بالتشجيع المطلوب «جربت فترة
أنا وقاعدة بالبيت أعمل إشيا للبيت وجرّب بيعها ما كان حدا يقبل يشتريها منّي
يقولولي بدّك تدريب أكتر. ومطرح ما روح يكون الشرط إني لازم إمشي مش عالكرسي».
ومع
هذا كلّه رفضت أن تستسلم، إذ اختارت ميرنا من جديد إمتهان حرفة جديدة كانت باب
أملها لبدء مشروعها الخاص. قصدت ميرنا إحدى المؤسسات لأخذ دروس في تزيين الشمع
لتعمل بعدها في المؤسسة نفسها في معمل للشمع. إلا أن صعوبة الانتقال يوميّاً من
منزلها الى العمل ذهاباً وإياباً، الى عدم تجهيز المؤسسة والمباني الخاصة بها
ووسائل النقل فيها لاستقبال المقعدين على الرغم من كونها مؤسسة تعنى بذوي الاحتياجات
الخاصة، دفعا بميرنا الى التوقف عن العمل بعد اكتساب خبرة لا بأس بها في المجال.
أحبت
ميرنا عالم الشمع والتزيين، وبدأت رحلة البحث عن عمل جديد يناسبها في المجال نفسه.
عندها صادفت منشوراً لرجل على موقع فيسبوك يعرض فيه مجموعة من الشمع كإعلان لمعمله
الخاص، فسألته ما إذا كان بحاجة لموظفين. علم الرجل بوضع ميرنا الصحّي خصوصا أنها
من سكّان بيروت فيما مركز معمله في طرابلس، مع ذلك قرر مساعدتها من خلال تزويدها
بمجموعة من الشمع «بالجملة» لتزيّنها وتبيعها على أن يتقاسما الأرباح على هذا
الأساس.
بداية
جديدة
وهكذا
انطلقت ميرنا بعملها الخاص وذاقت طعم النجاح في المجال الذي اجتذبها. وراحت تزيّن
الشمع وتزخرفه بأسلوبها الخاص المميز وتبيعه من خلال مشاركتها في معارض خاصّة
وعامة أو عبر عرضه على المارّة في منطقتها حيث بات العديد من الناس يقصدها لطلب مجموعته
الخاصة من الشمع.
لم
تنجُ ميرنا من التنمّر ونظرات الآخرين الفوقية على الرغم من كل ما حققته ورغم
قوتها وانتصارها على كل التحديات. وتروي عن بدايات نزولها الى الشارع لبيع الشمع
حاملة في حقيبتها مجموعة متنوّعة من أعمالها. في هذه المرحلة تقول ميرنا إنها تعرضت
للتنمر وواجهت صعوبات ونظرات وسمعت الكثير من العبارات الجارحة منها «مسكينة
هالبنت عم تشحد عإجرا» لكنّ هذه العبارة لم تكسرها خصوصاً انها اعتادت على هذا
النوع من الكلام المؤذي الذي يستخدمه الكثيرون ناهيك عن الشفقة التي تجعلها تشعر
أنها أقل من سواها.
من خلال
تجاربها العديدة، وإصرارها على الوقوف بوجه كل نظرة إختلاف بين ذوي الاحتياجات
الخاصة ومن هم بصحتهم تسأل ميرنا «ليش بتعطونا فكرة إذا مش عم نقدر نمشي لازم نشحد
لنعيش؟».
التحدي
الدائم
توجّه
ميرنا رسالة للجميع بأن ذوي الإرادة الصلبة هم في تحدٍ دائم وفي محاولات دؤوبة
لإثبات انفسهم في هذا المجتمع قائلة «نحن نجرّب بحسب قدراتنا أن ننجز أعمالاً
نحبها كي نشتغل حتّى لو كان الشغل بسيطاً ومدخوله متواضعاً». وتضيف «نحن نريد أن
نعيش من عملنا الخاص وليس هناك ما يدعو للشفقة علينا بل الأفضل تشجيعنا ودعمنا
وتحفيزنا على تحقيق أحلامنا وتنفيذ مشاريعنا.
قوّة
ميرنا استمدتها من نظرة الناس الذين يعتبرون ذوي الإحتياجات الخاصة غير مؤهلين
للعمل وتقديم فنهم وحرفهم وتحقيق أحلامهم. وتطالب بتحقيق المساواة بين الأشخاص
الذين هم بصحة جيّدة وبين ذوي الإحتياجات الخاصّة الأمر الذي تعتبره ميرنا حتى
اليوم غير مصان وغير محترم حتى في المؤسسات الخاصة والرسمية المولجة حماية حقوقهم
وتأمين حاجاتهم وتسهيل دخولهم إلى غمار العمل ومساعدتهم على إيجاد فرصهم.
قصة
كفاح
وإثباتاً
لقولها تلفت ميرنا الحاج الى إحدى المؤسسات الخاصة بذوي الإرادة الصلبة التي
زارتها وهي تابعة لأحد النافذين في وزارة الشؤون الإجتماعية، ورغم ذلك لم يكن مبنى
المؤسسة مجهزاً لاستقبال من هم في وضعها ووجدت صعوبة في الانتقال من طابق الى آخر
والوصول الى المكان الذي كانت تقصده. تقول «الأماكن المخصصة لنا، وإن أُتيح لنا
العمل فيها، لا تساعدنا على أن نكون مستقلين في تحرّكنا. بل نجد أنفسنا بحاجة
للمساعدة في التنقل للوصول الى العمل أو غيره». هذا الى جانب كون أغلب مؤسسات
الدولة والمرافق العامة ومراكز العمل والدراسة غير مجهزة وغير قابلة لإستقبال
المقعدين. وتناشد الحاج المعنيين بضرورة الالتفات الى وضعهم، لا في تقديم المساعدة
فحسب، بل بتأمين أبسط حقوقهم واحترامها بالفعل وليس بالكلام.
درس
ميرنا في الحياة اكتسبته من تجاربها الخاصة ورفضها الرضوخ لواقع يفرض عليها
الاستسلام والقبول بالتأقلم مع نظرات المجتمع وحربه. وتنهي حديثها قائلة «أنا
إنسانة عادية بس عندي ظرف صحّي وكل واحد منا معرّض يصير معه شي».
تعليقات
إرسال تعليق