زيزي
اسطفان ـ الراي
مرّة
جديدة يدفع لبنان ثمن حروب الآخَرين ولو لم تكن على أرضه. فالحرب الروسية على
أوكرانيا وإن كانت بعيدة عنه جغرافياً إلا أنها تهدّد أمنَه الغذائي وتسلّط فوق
رؤوس مواطنيه، الذين يتقلّب أكثر من 75 في المئة منهم تحت خط البؤس وعلى حفافيه،
شبحَ... اشتهاء الرغيف.
ومع
التوقّعات بأن يطول أمد الحرب الأوكرانية وأن تتمدّد في أكثر من اتجاه سياسي
واقتصادي وسط إشاراتٍ متزايدة إلى أن الصراع بين روسيا والغرب يتخذ منحى تصعيدياً
تصاعُدياً في منطقة تُعتبر المصدر الرئيسي للقمح الذي تستورده «بلاد الأرز»، قلّب
لبنانيون «الذاكرةَ السوداء» للوطن الصغير واستحضروا المجاعة الكبرى أيام الحرب
العالمية الأولى التي حصدت أكثر من نصف الشعب اللبناني، وكيف كان أجدادهم يقتتلون
من أجل الحصول على رغيف خبز أو يبيعون بيوتهم وأرزاقهم من أجل حفنة طحين يطعمون
بها أولادهم.
فهل
تعود تلك الصور المأسوية مع أزمة القمح التي بدأت ترخي بظلالها الثقيلة على لبنان؟
منذ
«الطلقة الأولى» في الحرب على أوكرانيا، انفجرتْ حالة ذعرٍ بين اللبنانيين
المنهكَين أصلاً من الانهيار المالي الأعتى الذي يضرب بلدهم، وذلك مع توالي «أجراس
الإنذار» من أن مخزون القمح الاستراتيجي في لبنان لا يكفي لأكثر من شهر ونصف شهر
على أبعد تقدير.
ومَن
يزر الأفران والسوبرماركت يلاحظ بأم العين اصطفاف المواطنين بطوابير لشراء الخبز
وكأنه سينقطع غداً. صحيح أن لا أزمة انقطاعِ خبزٍ في الوقت الراهن، لكن المواطنين
الذين يكتوون بنار الغلاء والأزمات باتوا يخشون من كل ما يخبئه لهم الغد. فلبنان
يستورد ما بين 50 الى 60 في المئة من كمية القمح التي يستهلكها سنوياً والتي تصل
الى حدود 600000 طن من أوكرانيا وفق ما قال وزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام،
والباقي من روسيا ومولدوفيا. لكن أرقاماً أخرى تشير الى أن النسبة تصل الى 80 في
المئة.
واليوم
ومع توقف عملية التصدير يجد لبنان نفسه في أزمة حقيقية وأمام خطرٍ لم يعُد مجرّد «فوبيا»،
ولا سيما مع تحذيرات غربية أبرزها على لسان السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة
ليندا توماس غرينفيلد من تداعيات الحرب الروسية «على البلدان النامية خصوصاً مثل
ليبيا واليمن ولبنان، ومن ارتفاع جنوني في أسعار المواد الغذائية يهددها بالجوع».
متداخلةٌ
الأسباب التي أدت الى حال الذعر بين المواطنين وكل المعنيين بالأمن الغذائي في
«بلاد الأرز». فإهراءات القمح والحبوب التي كانت تكفي لتخزين 120000 طن من القمح
تكفي حاجة لبنان لمدة ثلاثة أشهر، دمرّها انفجار مرفأ بيروت الهيروشيمي في 4 اغسطس
2020 ما ترك لبنان مكشوفاً غذائياً ومتصدّعاً في استعداداته لتأمين البدائل التي
لم «يستفِق» عليها إلا بعدما أقلعت آلة الحرب التي قد تكون بيروت الوحيدة التي
«تفاجأت» بأنها قد تندلع، فلم تتكبّد سلطاتها، التي وضعت البلاد على «مقاعد
الاحتياط» بين الدول «المكتملة المواصفات»، عناء التفكير بـ «خطة ب» أو أكثر أي
اتخاذ إجراءات احتياطية متدرّجة عبر زيادة المخزون والتعاقد مع دول مصدّرة بديلة،
قبل أن تقع الفأس بالرأس.
فالقمح
في لبنان بات منذ «بيروتشيما» يُخزن بكميات قليلة تصل عبر بواخر صغيرة تتسع
الواحدة منها لما بين 5000 الى 7000 طن ليس إلا، وقد تصل في أقصاها الى 15000 طن
بحسب ما أورده رئيس غرفة الملاحة الدولية إيلي زخور، ويتم نقل هذه الشحنات مباشرة
الى مستودعات المطاحن التي تقوم بتسليم الطحين فيما بعد الى الأفران الكبرى وفق
جدول محدد لا يتيح لهذه الأخيرة تخزينه أو الحصول على ما يفوق حاجتَها منه.
وحتى
الأفران الصغيرة تخضع لحالة من التقنين في الحصول على الطحين من الأفران الكبرى ما
يعنى أن مخزون الأفران محدود ولا يكفي لوقت طويل إن لم تبادر الحكومة اللبنانية
الى إيجاد مصادر أخرى للقمح.
وفي
اتصال أجرتْه معه «الراي»، أوضح نقيب مستوردي القمح في لبنان أحمد حطيط «أن الذعر
الذي حصل كان سببه الأكبر مشكلة فتح الاعتمادات من مصرف لبنان (يدعم القمح على
دولار 1515 ليرة لتفادي تحليق سعره وفق دولار السوق الذي يناهز 21 الفاً)، لكن هذه
الأزمة شهدت بعض الحلحلة إذ ان «المركزي» حوّل الاعتمادات اللازمة لوصول باخرتيْ
قمح يوم الجمعة في 25 فبراير ويتوقع ان يحوّل الاثنين الاعتمادات لباخرتين أخريين،
ما يؤجل المشكلة لنحو شهر. حينها لا بد من التفكير بأسواق بديلة، وقد حصل وزير
الاقتصاد على موافقة من مجلس الوزراء لشراء 50000 طن من القمح. وسيصار الى إجراء
مناقصة للحصول على أفضل الأسعار».
ويؤكد
حطيط لـ «الراي» ان «البلدان التي لا يزال بإمكان لبنان الحصول على شحنات سريعة من
القمح منها هي رومانيا، صربيا وهنغاريا. ويبقى الاحتمال الأميركي هو الأبعد نظراً
لتكلفة الشحن المرتفعة والتي تأتي لتضاف الى الارتفاع العالمي في سعر القمح والذي
وصل الى 40 يورو في الطن.
كما
أن الشَحن من الولايات المتحدة الى لبنان يستغرق نحو 25 يوماً فيما لا يتعدى 7
أيام من أوكرانيا أو بلدان البحر الأسود. ولا يمكن الانتظار كل هذه الفترة إلا إذا
كان ثمة شحنة جاهزة في البحر والأميركيون مستعدون لتقديمها الى لبنان».
طبول
الحرب التي بدأت تُقرع قبل نحو شهر لم تدفع بالمسؤولين في لبنان الى استباق الأزمة
ودعوة التجار الى استيراد كميات إضافية من القمح، ذلك أن مصرف لبنان يتأخر في فتح
الاعتمادات اللازمة لتسديد قيمة القمح المستورد بفعل أزمة السيولة والدولار التي
يعانيها البلد. ويوضح عضو نقابة أصحاب الأفران علي إبراهيم أن أزمة القمح بدأت منذ
ما قبل أزمة أوكرانيا وهناك خلاف بين المطاحن ووزارة الاقتصاد في شأن سعر النخالة
وبسبب التأخير الشهري في فتح الاعتمادات.
وفي
هذا السياق، يؤكد حطيط «أن الشركات الكبرى التي يتعامل معها المستوردون اللبنانيون
لاستيراد القمح والتي تتركز غالبيتها في سويسرا كان يمكن أن تعطي سابقاً بعض
التسهيلات لهؤلاء في انتظار أن يفتح مصرف لبنان الاعتمادات، ولكن حالياً ومع
التداعيات الاقتصادية العالمية للحرب الروسية الأوكرانية فإن الشركات باتت تطلب
سداداً فورياً لمستحقاتها».
ويلفت
حطيط إلى «اننا سنجتمع مع وزير الاقتصاد و «لجنة الأمن الغذائي» للطلب إليها أن
يتم فتح الاعتمادات بشكل فوري دون أي تأخير ليصار الى استيراد القمح سريعاً وتجنيب
البلاد أزمة كبرى ولا سيما أنّ المصدّرين لديهم رغبة في تحويل شحنات القمح إلى
بلدان أخرى للاستفادة من فارق الأسعار بعد ارتفاعها وزيادة الطلب على القمح».
إذاً
ليس توقف الاستيراد وحده أو محدودية المخزون هو الذي يشي بأزمة قمح في لبنان، بل
إن الانهيار المالي يلعب دوراً محورياً في أزمةٍ كانت «فتائلها» موجودة أصلاً،
وجاءت الحرب على أوكرانيا «لتصبّ الزيت على نارها» وتفتحها على فصول يُخشى أن تكون
دراماتيكية.
وسبق
للمدير العام للحبوب والشمندر السكري في وزارة الاقتصاد جريس برباري أن أعلن أن
القمح موجود لدى المطاحن، لكن بحكم كونه غير مدعوم، فقد توقّفت المطاحن عن تسليمه
للأفران، ريثما يُسدّد مصرف لبنان مستحقات الدعم لهذا القمح إذ في حال تم التسليم
بسعر غير مدعوم فإن سعر ربطة الخبز سيرتفع الى مستويات غير مسبوقة.
اللبناني
الذي لا يزال حتى اليوم قادراً على شراء ربطة الخبز المدعومة وإن تضاءل وزنها ورقّ
رغيفها، قد لا يعود في الغد القريب قادراً على ذلك بفعل تَزاوُج الأزمة الروسية
الأوكرانية مع الأزمة اللبنانية واستيلادهما معاً لكارثتين «أحلاهما مُر»، إما
انقطاع «لقمة الفقراء» او الارتفاعٍ غير المسبوق في سعرها بما يجعلها خارج متناول
الكثير من اللبنانيين الذين سيزيد بؤسهم بؤساً. فسعر القمح اليوم يراوح بين 360 و
400 دولار، وهذا يشمل تكلفة الشحن والنقل، ومع ارتفاع سعر القمح عالمياً بسبب
الحرب الروسية الأوكرانية يتوقع ان يقفز ما بين 30 الى 40 في المئة ويصل الى 500
دولار.
ومن
جهة أخرى، ومع ارتفاع سعر برميل النفط عالمياً وما يرتبه ذلك من ارتفاع في أسعار
المحروقات فإن تكلفة طن القمح الواصل الى لبنان لا شك سترتفع وسيضاف إليها ارتفاع
سعر المحروقات محلياً ولا سيما المازوت، ما يعني تكلفة إضافية على سعر ربطة الخبز
ستكون مرهقة للمواطن إن لم يتحمل مصرف لبنان الجزء الأكبر من الدعم.
وحاول
وزير الاقتصاد أمين سلام طمأنة اللبنانيين، مشيراً الى وصول كميات من القمح إلى
لبنان خلال الأيام الماضية، وأن غالبية السفن التي تم التعاقد معها تخطت أماكن
الخطر بالملاحة البحرية، وبات وصولها الى لبنان مضموناً.
وأوضح
أن بعض مناطق روسيا التي تملك مرافق على البحر الأسود قد تستطيع تصدير القمح
الروسي، بشرط أن لا تقف العقوبات عقبة أمام عمليات التصدير. وأكد أنّه يسعى لعقد
اتفاقات استيراد من دول مختلفة، ويتواصل مع أميركا وكندا وفرنسا والهند، التي
تناسب مواصفات القمح فيها حاجةَ لبنان، معرباً عن أمله بالحصول على التزامات من
بعض الدول أو بعض الشركات بشراء القمح بأسعار مخفضة لحجزها وتأمين شهر أو شهرين من
القمح.
وأبدى
خشيته من تعثر الملاحة البحرية بسبب الحرب «إذ قد يصدر قرار بوقف الملاحة البحرية
بين أوكرانيا وسائر الدول كما حصل في حركة النقل الجوي»، ومن «لجوء الدول التي
نستورد منها القمح إلى تخزين تلك المادة لديها والتوقّف عن البيع، علماً أن
الشحنات إلى لبنان في الأيام العادية تصل متأخرة فكيف بالحري اليوم، كما من إعلان
حال طوارئ عالمية، فتتوقف الدول عن تصدير القمح إلى لبنان، فالدول التي تعتمد في
عملها على استيراد القمح مثل لبنان واليمن وسورية، سيكون أمنها الغذائي مهدداً بسبب
عدم وجود مخزون احتياطيّ لديها من القمح، أما مصر التي تعتمد على الاستيراد،
فلديها مخزون من القمح».
وهل
باستطاعة مصرف لبنان دعم سعر طن القمح إذا ارتفع سعره بنسبة 30 أو 40 في المئة،
قال (لصحيفة نداء الوطن): «القمح لا يزال المادة الوحيدة المدعومة من مصرف لبنان
بنسبة 100 في المئة، بالكاد يمكن أن يستمرّ بتأمين الدعم فكيف إذا ارتفعت الأسعار،
فمصرف لبنان قد يكون عاجزاً عن دعمه كاملاً أو حتى جزئياً، ودور وزارة الاقتصاد
توفير القمح للخبز العربي خصوصاً. من هنا تقدمت لمجلس الوزراء بطلب مشروع مرسوم
للحصول على سلفة من الدولة لمديرية الحبوب والشمندر السكري لشراء القمح للمرة
الأولى وحفظها للبنان بسعر معين مع صفة الاستعجال، ليصار على أساسها لتبليغ مصرف
لبنان بفتح اعتماد لشراء تلك المادة. فالدولة يجب أن تضمن 50 ألف طن أو 100 ألف طن
لفترة شهر أو شهرين بسعر معين لأن سعر طن القمح قد يصل إلى 500 دولار، ما قد يضاعف
سعر ربطة الخبز».
تعليقات
إرسال تعليق