(محمد
المِنشاوي ـ الجزيرة نت)
تسبب
الغزو الروسي لأوكرانيا في إحداث مأزق كبير لصانعي الإستراتيجية الأمنية الأميركية
الذين كانوا يخططون لمواجهة إستراتيجية واحدة تتمثل في مواجهة الصعود الصيني.
ومنذ
نهاية الحرب الباردة قبل أربعين عاما، هيمنت واشنطن على الساحة الجيوإستراتيجية العالمية،
وامتد نفوذها السياسي والعسكري لكل بقاع العالم. ولم تتردد واشنطن في الدخول في
مواجهات عسكرية وغزو دول، سواء في البلقان أو الشرق الأوسط أو أميركا الوسطى
وأفريقيا، دون أن تخشى ردة فعل أي من القوى الكبرى المنافسة. ودفعت واشنطن، رغم
وجود تحفظات واستثناءات، لتعزيز الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، ووسعت حلف
الناتو في اتجاه الشرق.
ومنذ
وصول الرئيس تشي جين بينغ للحكم في الصين قبل 10 سنوات، بدأت النخبة الأميركية
الانتباه لتضخم قوة الصين التي لم تعد صناعية تجارية في جوهرها، بل امتدت وبقوة
للجانبين العسكري والتكنولوجي.
وفور
وصوله للحكم، بدأ جو بايدن في تشكيل شبكة تحالفات جديدة تحيط بالصين وتستهدف
مواجهة قوتها الصاعدة في منطقة المحيطين الهندي والهادي، وتأسس على إثر ذلك تحالف
"أوكوس" مع أستراليا وبريطانيا، وتحالف "كواد" مع اليابان
وأستراليا والهند.
وخلال
العقدين الأخيرين، أشارت وثائق الأمن القومي الأميركي إلى تصاعد مخاطر كبيرة من
تهديدات الصين، ووجود بعض المخاطر الأقل من جانب روسيا. ولم تشر وثيقة
"التوجيه الإستراتيجي المؤقت لإستراتيجية الأمن القومي" -التي أصدرتها
إدارة بايدن في مارس/آذار الماضي- إلى روسيا إلا مرتين كقوة منافسة تمثل تحديا
للولايات المتحدة. في حين ذكرت الوثيقة الصين 15 مرة كلها في إطار ضرورة التأهب
لمواجهة تهديداتها، حيث أصبحت هي المنافس الوحيد القادر على الجمع بين القوة
الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية، وتحدي القدرات الأميركية.
ولكل
ما سبق تقاربت بكين وموسكو في السنوات الأخيرة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى
مخاوفهما المتشابهة من شبكة التحالفات العسكرية الأميركية قرب حدودها المباشرة.
وشهد الشهر الماضي توقيع الرئيسين الصيني والروسي بيانا في بكين وصفا فيه شراكتهما
الوثيقة على نحو متزايد بأنها "بلا حدود".
وتسببت
العولمة التجارية والاعتماد المتبادل بين الدول في تعقيد التحالفات الدولية ذات
الطبيعة العسكرية، ففي الوقت الذي تعد فيه روسيا موردا رئيسيا للطاقة لغرب أوروبا،
تعد الصين الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة ولدول الاتحاد الأوروبي كذلك.
ولعقود
نظرت نخبة واشنطن إلى أوروبا كقارة حرة مسالمة مزدهرة تعيش في سلام، على الرغم من
بعض المخاوف المتعلقة بروسيا، لكنها لم تصل لتصور قيامها بغزو شامل لدولة ذات
سيادة على النحو الجاري الآن.
واستغلت
روسيا تركيز واشنطن على مواجهة تهديدات صعود الصين، وقامت بما تراه لازما لإعادة
تشكيل الترتيبات الأمنية لأوروبا، على الرغم من الاعتراضات الأميركية والعقوبات
الغربية الواسعة.
وتتفق
بكين مع موسكو في ضرورة إعادة تشكيل النظام العالمي لصالحهما، ورغم أن علاقاتهما
لا ترقى إلى مستوى التحالف الرسمي، فإن مشاركتها العداء للرؤية الأميركية كفيلة
بتنسيق تحركاتهما الإستراتيجية لمواجهة ما يعتبرانه "مزايا عسكرية أميركية
أحادية الجانب على حساب أمن الآخرين".
من
هنا يمثل غزو أوكرانيا أول صدام كبير يعكس في تداعياته إرهاصات نظام جيو إستراتيجي
ثلاثي الأبعاد، وإن كانت روسيا تعد دولة ضعيفة اقتصاديا وماليا بمعايير الصين
وأميركا.
يترك
هذا النظام الناشئ الولايات المتحدة تتنافس مع خصمين في وقت واحد في أجزاء متباينة
جغرافيا من العالم. وتواجه إدارة بايدن الآن قرارات كبيرة بشأن ما إذا كانت ستعيد
ترتيب أولوياتها، وتزيد من إنفاقها العسكري، وتطالب الحلفاء بالمساهمة بشكل أكبر،
وتنشر قوات إضافية في الخارج، وتطور مصادر طاقة أكثر تنوعا لتقليل اعتماد أوروبا
على موسكو.
ومن
هنا بدأت المؤسسة الأمنية الأميركية في ملاحظة ما أسماه البنتاغون في عام 2015
"عودة ظهور منافسة القوى العظمى"، وتحولت عن تركيزها على حربها الكونية
على الإرهاب، إلى إعادة التجهيز للصراعات المستقبلية. ووصف وزير الدفاع الأميركي
لويد أوستن الصين مرارا وتكرارا بأنها "التحدي العاجل"، في حين كان
يُنظر إلى روسيا على أنها الخطر الأقل على المدى الطويل.
وتطابق
هذا الإسقاط مع أولويات الرئيس بايدن حتى في الوقت الذي تعهد فيه بدعم
الديمقراطيات في العالم. ومثل الانسحاب من أفغانستان، وتقليل الوجود العسكري في
الشرق الأوسط، بداية توجهٍ استهدف إعادة ضبط العلاقة مع موسكو، من أجل التفرغ
للتركيز على المنافسة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية مع الصين.
وتحقيقا
لهذه الغاية عقد بايدن اجتماع قمة في يونيو/حزيران الماضي مع بوتين لإقامة ما
وصفها البيت الأبيض بعلاقة "مستقرة ويمكن التنبؤ بها"، ولوضع ضوابط
للعلاقات مع موسكو، وافق بايدن على تمديد معاهدة ستارت الجديدة لمدة خمس سنوات
للحد من الأسلحة النووية الأميركية والروسية بعيدة المدى.
ومع
غزو روسيا لأوكرانيا، استعادت واشنطن كابوس سيناريو إجبار جيشها على خطر الإرهاق
إذا أجبر على القتال على جبهتين (أوروبا وتايوان) أو أكثر في وقت واحد.
ودفعت
الأزمة الأوكرانية بالفعل إلى نقل واشنطن المزيد من القوات إلى أوروبا، ومن المرجح
أن تدفعها إلى إعادة التفكير في مستويات الإنفاق الدفاعي وحجم قواتها المسلحة.
ويرى بعض المعلقين أن عصر التخفيضات النووية في سبيله للانتهاء، إذ تجادل الكثير
من الأصوات من داخل البنتاغون من أجل ترسانة نووية كبيرة بما يكفي لردع كل من
الأسلحة النووية الروسية الهائلة والقوات النووية الصينية سريعة النمو، والتي لا
يحدها أي اتفاق للحد من التسلح.
وبعيدا
عن الشؤون العسكرية، ستؤدي الأزمة الأوكرانية إلى تسريع المزيد من تصدع العولمة
الاقتصادية، يفوق الضربة التي تعرضت لها رؤية واشنطن من خلال الضربات التي تعرضت
لها سلاسل التوريد بسبب انتشار وتفشي فيروس كوفيد-19، وحروب التعريفات الحمائية.
وتضاعفت مخاوف الصين عقب غزو بوتين لأوكرانيا من أن تصبح الهدف التالي للعقوبات
الأميركية والغربية من أجل وقف صعودها، حيث يؤمن بعض المعلقين الأميركيين بضرورة
وقفها الآن حتى لا تضطر الولايات المتحدة والغرب إلى وقفها بالطرق العسكرية في
المستقبل.
x
تعليقات
إرسال تعليق