رحيل أم عزيز الديراوي.. رمز قضية اللاجئين الفلسطينيين المفقودين بلبنان

مازن كريّم

رحلت اللاجئة الفلسطينية الحاجة آمنة حسن بنات، المعروفة بـ”أم عزيز الديراوي”، من مخيم “برج البراجنة” في العاصمة اللبنانية، بيروت، عن عمر ناهز 91 عامًا، دون أن تعرف أي معلومة حول مصير أبنائها الأربعة الذين اختُطفوا إبان الحرب الأهلية اللبنانية، عام 1982.

مضت 40 عامًا منذ اختطاف أبناء “أم عزيز” الأربعة، عاشت فيها صابرةً على القتل البطيء للأمل الذي كان يتبدد في كل مرة يشاع فيها شيء عن مصير المغيبين في الحرب الأهلية، وسرعان ما يتبين أن لا أنباء عن مصير أولادها.

محطات من حياة “أم عزيز

تقول حفيدة “أم عزيز”، رشا خليل، إن جدتها “رحلت بعد عقود من الصبر، والنضال، والأمل والمقاومة”.

وبيّنت خليل لـ”قدس برس” أنه في عام 1982، في فترة الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، ومع تنفيذ مجزرة “صبرا وشاتيلا”، فقدت جدتها أبناءها الأربعة: عزيز (30 عامًا)، وإبراهيم (28 عامًا)، ومنصور (24 عامًا)، وأحمد (13 عامًا)، مضيفةً: “منذ ذلك الحين، لم تعرف عنهم شيئًا، سواءً إن كانوا أحياء أم شهداء”.

وأردفت: “منذ 40 عامًا لم يدق الفرح باب قلبها؛ لا تقبل التهاني في الأعياد، ولا تشارك بأي مناسبة لبقية أولادها أو بناتها؛ حزنًا على أبنائها الاربعة”، مشيرةً إلى أن “الـ17 من أيلول/سبتمبر من كل عام هو يوم حداد في بيتها وبين عائلتها، تبكي وتتشح بالأسود وتسأل وتدعي وترجو الله أن تعرف مصيرهم، وتنشد (عتابا) حزينة جدًا ومؤثرة لأبنائها”.

وأشارت إلى أن جدّتها “وضعت صور أبنائها الأربعة، في كل زاوية من غرفتها، وصالون المنزل”، كما كشفت أن “أم عزيز” أوصت أبناءها البقية “أن يقوموا بوضع الصور إلى جانب قلبها، ويدفنوها معها حين ترحل عن الحياة”، مشيرةً إلى أن وصيتها نفذت.

وأضافت أن جدتها كانت “تمارس طقوسًا تشهد لها بعدم فقدانها الأمل حول مصير أبنائها، إذ كانت في كل مرة يدق باب منزلها ليلاً لا تقبل أن يفتح أحد غيرها الباب، على أمل أن يكون الطارق أحد أبنائها المفقودين، مؤكدة أنه لا أحد يعرفهم سواها”.

ظروف الاختطاف

تروي الحفيدة رشا لـ”قدس برس” حادثة اختطاف أخوالها الأربعة، كما سمعَتها من جدتها، قائلة: “كعادتها، تستيقظ جدتي باكرًا، تجهّز الطعام لأبنائها الأربعة، عزيز وإبراهيم ومنصور وأحمد، تقبل أصغرهم ثم تذهب لتشتري بعض الخضار”.

وتتابع: “اشترت جدتي حاجاتها وعادت إلى البيت، الذي دخلته فلم تسمع صوتًا لتطلّ زوجة عزيز وهي ترتجف، وتخبرها بأن جنودًا وعساكر اقتحموا البيت وأخذوا أبناءها الأربعة، قائلة إنها اختبأت لتحفظ نفسها وابنها”.

وأضافت رشا أن جدتها “ركضت باتجاه شاحنات عسكرية تحمل عشرات الشباب المختطَفين، فسمعت صوت عزيز من داخل الشاحنة المعتمة يناديها: يما، أنا هون (أنا هنا يا أمي)”.

وأردفت: “اقتربت جدتي من الشاحنة أكثر لتطمئن عزيز وتطمئن عليه وعلى إخوته، لكن أحد العسكريين رفسها وطرحها أرضًا، ثم بدأ عساكر آخرون من الخاطفين بتوجيه اللكمات لعزيز، فسال دمه على وجهه وتناثر على كنزته قصيرة الأكمام، وكانت (أم عزيز) قد حملت إليه قميصًا طويل الأكمام عله يحميه برد أيام أو ساعات قليلة، لكنهم منعوها من إيصاله إليه”.

وأردفت: “كانت جدتي تتمسك بخيط من الأمل، تنتظر أبناءها ولا تصدّق أنهم ضمن 991 رجلاً وامرأة فُقدوا في (صبرا وشاتيلا)، ولن يعودوا”.

مسلسل قتل واختطاف الفلسطينيين في لبنان

يقول عضو الأمانة العامة للمؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، ياسر علي، إن “وفاة أم عزيز أعادت إلى الأذهان ما جرى خلال مجزرة مخيم (صبرا وشاتيلا)، حينما أقدمت عصابات (القوات اللبنانية) على خطف أكثر من 400 شخص، ووضعوهم في شاحنات وذهبوا بهم إلى مصير مجهول”.

وأضاف علي لـ”قدس برس”، بصفته شاهد عيان على ما جرى في تلك الفترة، أنه “عُرف لاحقًا أنه تم اقتياد معظم المختطفين إلى منطقة مجاورة للمدينة الرياضية في بيروت، تسمى الداعوق”.

وأردف مؤكدًا أن “بعض العائلات تمكنت من إيجاد أبنائها، وطلبت من الخاطفين إطلاق سراحهم، عبر استخدام عدة طرق؛ فمن العائلات مَن قالت إن أبناءها يحملون الجنسية اللبنانية وليسوا لاجئين، ومنها من عرّف باللاجئين على أنهم مدنيون وليسوا مقاتلين منظّمين في أي تنظيم فلسطيني”، مستدركًا: “لكن النسبة الأكبر من المختطفين تمت تصفيتهم أو أخفاؤهم قسرًا”.

وأشار علي إلى أن “ما تسمى بـ(تجارة المخطوفين) اشتهرت في ذلك الوقت، إذ عمل بعض الخاطفين على التجارة بملف المخطوفين، حيث كانوا يطلبون من العائلات دفع مبلغ من المال مقابل تسليم أبنائهم لهم، وقد نجحت بعض العائلات فعلاً في ذلك بعد دفع مبالغ مالية طائلة”.

واستدرك قائلاً إن “بعض الخاطفين كانوا يستدرجون عائلات المختطفين للذهاب إلى أماكن معينة ودفع مبالغ كبيرة مقابل استلام أبنائها فيها، ثم يقتلونهم بدم بارد، كما حصل مع إحدى اللاجئات الفلسطينيات، حيث عملت على جمع مبالغ كبيرة من أجل استلام ابنها، وعند الوصول إلى مكان تواجد الخاطفين قتلوها ورموا جثتها تحت أحد الجسور”.

الإخفاء القسري

من جانبه، قال الكاتب الفلسطيني رأفت مُرّة، إن “حالات الاختفاء القسري والتغييب والخطف التي تعرض لها اللاجئ الفلسطيني في لبنان هي جزء من معاناة كبيرة لا زال يعيشها اللاجئون الفلسطينيون حتى يومنا هذا، إلى جانب التشريد، والقتل، والحصار، والغرق وغيرها من أشكال العذاب”.

وأوضح مرة لـ”قدس برس” أن اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات لبنان “نالوا نصيبًا كبيرًا من وحشية الإخفاء القسري، فواقع التشتت وفقدان الوطن والحماية جعل منهم حلقة ضعيفة تستفرد بها مختلف القوى المناهضة لقضيتهم، والعدو الصهيوني في مقدمة تلك القوى”.

وأكد أن “أُسر المختفين قسرًا من اللاجئين الفلسطينيين تعاني مرارة عذاب عدم معرفة مصير أحبائهم أو مكان تواجدهم”. مشيرًا إلى أن “تلك الأُسر ما هي إلا ضحايا لانتهاكات مروعة ومستمرة، في ظل الافتقار إلى إجراء أية تحقيقات يمكن من خلالها إثبات الحقيقة بشأن مصير المفقودين”.

واستطرد قائلاً إن ملف المفقودين “من الملفات الموجعة بكل معنى الكلمة، لأنه ترك جرحًا كبيرًا داخل المجتمع الفلسطيني في لبنان”.

أعداد المفقودين

وتظهر بعض التقديرات غير الرسمية، التي تعود لمراقبين، أن أعداد اللاجئين الفلسطينيين الذين فقدوا إثر الحرب الأهلية اللبنانية تتجاوز أربعة آلاف مفقود، فيما لم تبذل الجهات الرسمية الفلسطينية (منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية) أي جهد يذكر في توثيق أعداد المفقودين أو المطالبة في الكشف عن مصيرهم.

ويؤكد خبراء أن منظمة التحرير تغاضت عن فتح ملف المفقودين بشكل متعمد، لاعتبارات سياسية تخص مرحلة “المسامحة”، التي كرسها  ما عُرف لاحقًا بـ”إعلان فلسطين في لبنان”، الذي أطلقه سفير السلطة الفلسطينية في لبنان عام 2008، عبّاس زكي، في ذكرى انطلاقة حركة حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، آنذاك.

ويصف البعض “إعلان فلسطين في لبنان” بأنه جاء بمثابة اعتذار أحادي الجانب باسم الفلسطينيين للبنان، وأن منظمة التحرير طوت به جميع الملفات المتعلقة بالضحايا والمفقودين الفلسطينيين، وكذلك ملفات المحاسبة والتعويضات، بدعوى “عدم نكء الماضي وخسارة جميع الأصحاب” وفق تصريح أدلى به مسؤول دائرة المؤسسات الأهلية في سفارة فلسطين في بيروت، إدوار كتورة، لإحدى الصحف اللبنانية عام 2009.

تجدر الإشارة إلى أن المعايير الدولية لحقوق الإنسان توجب حق العائلات أن تعرف مصير أقربائها في أوضاع النزاع المسلح، ويتعين على أطراف النـزاع المسلح أن تنشر كل المعلومات ذات الصلة فيما يتعلق بمصائر الأشخاص المفقودين وأماكن وجودهم، كما يتعين على الدول إجراء تحقيقات مستقلة في انتهاكات حقوق الإنسان خلال النـزاع وبعده.

 

تعليقات